تداعيات ظهور "داعش" على الأمن الإقليمي العربي

تداعيات ظهور "داعش" على الأمن الإقليمي     
كان شهر يونيو صعباً جداً على العراق نظراً إلى أنه شهد قيام مجموعة جهادية هامشية- تطلق على نفسها "الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام"- بالتقدم بسرعة عبر شمال وشمال غرب الدولة، والاستيلاء على بلدة تلو الأخرى، من دون مقاومة تذكر من جانب القوات المسلحة العراقية. وبرغم أن مدينة سامراء قد سقطت في أيدي التنظيم في 5 يونيو، فإن الخبر الذي تصدّر عناوين الصحف العالمية كان سقوط مدينة الموصل في 10 يونيو، الأمر الذي تلاه الاستيلاء السريع على معظم المدن الرئيسية الأخرى وهي باجي وتكريت وتلعفر، حتى أصبحت "داعش" تتمركز الآن على بعد كيلومترات قليلة من بغداد.

توجّـت هذه النجاحات بتطور دراماتيكي آخر، حين أعلن متحدث باسم "داعش". في 29 يونيو، إقامة الخلافة في الأراضي التي استولى عليها التنظيم، الذي أصبح يشار إليه باسم "الدولة الإسلامية" تحت قيادة الخليفة، أبوبكر البغدادي. وفي ظل توافر الموارد المالية، والأسلحة والأراضي تحت قيادتها، غدا تنظيم "داعش" يشكل تدخلاً خطيراً في النسيج المعقد للسياسة في غرب آسيا، مع انعكاسات بعيدة المدى على العراق والشؤون الإقليمية.

المقومات 
تنظيم "داعش" ليس مجموعة مهلهلة بل بنية عسكرية منظمة تنظيماً جيداً تمتلك رؤية سياسية واضحة،  إقامة الخلافة عبر العالمَيْن الإسلامي والعربي. يصل إجمالي عدد أعضائها الأساسيين نحو 15 ألف فرد من المقاتلين المجاهدين، مع العديد من الأجانب، ومنهم نحو ألفي شخص من أوروبا. ومع ذلك، فهي ليست كياناً متجانساً واحداً بل تشتمل على عدد من المجموعات المتباينة التي تآلفت معاً في تحالف تجمعه مصلحة مشتركة تعارض السياسات الطائفية التي ينتهجها رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي.

لقد بني النظام السياسي الذي ظهر في العراق في أعقاب نظام سقوط صدام حسين على أسس طائفية، تفضل بوضوح الطائفة الشيعية. ومع ذلك، لم تظهر الانقسامات الحادة التي تسود العراق اليوم سوى في وقت لاحق. فلقد خشي نوري المالكي من أن يصبح الجيش العراقي غير الطائفي، الذي نظمه الأمريكيون ودربوه، مركزاً مستقلاً للقوة، وأن يُقدم ذات يوم على تحدي سلطته. ومن ثم، بدءاً من عام 2011، عقب انسحاب القوات الأمريكية من الدولة، جرت عملية تطهير ممنهجة للضباط السنّة والأكراد من الجيش العراقي، ولم يبقَ في الجيش سوى العنصر الشيعي الذي يفتقر إلى التدريب.

العناصر السنية الساخطة التي تشعر بالغربة نتيجة لسياسات المالكي تشكل الآن جزءاً رئيسياً من تنظيم "داعش". وتشمل أفراداً من القبائل السنية التي تشكل ما يزيد على 40 جماعة مسلحة، بما في ذلك جنود من جيش صدام حسين. وهناك مكوّن آخر يتمثل في جيش الطريقة "النقشبندية"، الذي يتألف من جنود  الطرق الصوفية الذي نظمه عزة إبراهيم الدوري، الذي كان وزيراً للداخلية خلال حكم الرئيس العراقي، صدام حسين. كما يضم التنظيم آلافاً عدة من أعضاء حزب البعث وأتباع الطرق الصوفية والإخوان المسلمين أيضاً، وأصبح الآن قوة مهيمنة تواجه حكومة المالكي. وكما خلص برنارد هايكل وكول بونزيل في مقال نشر، مؤخراً، "أصبحت النزعة الجهادية العنيفة الآن سمة راسخة في المشهد السياسي العربي".

التداعيات على العراق 
إضفاء بُعد إقليمي ملموس على الخلافة أثار مخاوف فورية تتعلق بوحدة أراضي العراق. وهكذا، برزت كتابات كثيرة حول إمكانية تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق للسنة، والشيعة، والأكراد، ما يعد تراجعاً عن الترتيبات الإقليمية القائمة على أساس ترتيبات سايكس-بيكو في عام 1916. لكن، في حين أن إعداد الخرائط على الورق قد يكون سهلاً، فإن تنفيذها على أرض الواقع قد يكون صعباً جداً.

أولاً، هناك مناطق كبيرة في العراق مختلطة من حيث طوائف السكان، وستكون مهمة شاقة معرفة، على وجه التحديد، المناطق "السنية" أو "الشيعية". ثانياً، لا يوجد دعم كبير لهذا الفصل الواضح: ذلك أن الشعور بالمواطنة العراقية قد تعزز بثبات على مدى المئة عام الأخيرة. ففي أثناء الحرب ضد إيران في فترة الثمانينيات من القرن الماضي، على سبيل المثال، قاتل الجنود العراقيون، وكثير منهم شيعة، إخوانهم في الطائفة ذاتها بشراسة. ثالثاً، العديد من الشركاء السنّة لـ "داعش" يحبذون الحفاظ على دولة عراقية متحدة وغير طائفية وملائمة لجميع الطوائف التي تشكل جزءاً من الهيكل الوطني المعقّـد في العراق.

لم تنل "الدولة الإسلامية" التي أعلنتها "داعش" أي دعم يذكر سواء في العراق أو في المنطقة، حتى إن الميليشيات السلفية في سوريا أعربت عن معارضتها لها. إضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من خطابهم، فمن غير المرجح أن يفسد الأكراد الوضع الجيوسياسي الإقليمي بإعلان دولة ذات سيادة، نظراً إلى الصعوبات التي ستواجهها باعتبارها كياناً غير ساحلي في جوار مُعادٍ. حتى الآن، من المحتمل أن يجد الأكراد أن مصلحتهم تكمن في الحصول على استقلال ذاتي في إطار عراق موحد. وهكذا فإنه من غير المرجح أن يتم رسم خطوط جديدة على خريطة غرب آسيا في المستقبل القريب.

إن ما يحتاج إليه العراق على وجه عاجل هو قائد على غرار رجل الدولة الذي يستطيع جمع الأطراف المختلفة التي أبعدتها سياسات المالكي الطائفية الضيقة. في مفارقة مثيرة للسخرية، أن المالكي تمتع بدعم كلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وهو العامل الذي مكنّه من تأسيس سلطته على أساس طائفي ضيق أدى إلى نفور قطاعات واسعة من السكان الشيعة، حتى بعض الجماعات الشيعية. والآن يُـلقي معظم المراقبين باللائمة على المالكي في تردي الوضع الاقتصادي في الدولة واستمرار العنف والهزيمة العسكرية الأخيرة.

التداعيات الإقليمية 
 لتغيير الوضع في العراق، يتعيّـن على الولايات المتحدة الأمريكية وإيران أن تعملا معاً نظراً إلى أن لكليهما مخاوف بشأن صعود "داعش". ومع ذلك، وبرغم أن الولايات المتحدة الأمريكية وإيران تعاديان داعش وهما ملتزمتان باستقرار العراق، فإن لديهما اختلافات كبيرة.
ترغب الولايات المتحدة الأمريكية في أن ترى حكومة تمنح التمكين للطوائف المختلفة في العراق في حين ترغب إيران في أن تحتفظ بنفوذها السياسي في الدولة، الذي تمارسه عبر السلطة الشيعية في بغداد. ومرة أخرى، بينما تريد إيران أن تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية قوتها العسكرية ضد "داعش"، تخشى الولايات المتحدة الأمريكية القلق من أن مثل هذا التدخل قد لا يقدر حق قدره من قِبل دول الخليج. فدول الخليج، على الرغم من قلقها العميق إزاء وجود العناصر الجهادية على حدودها، فإنها تخشى من استخدام القوة الأمريكية في تمكين النظام الشيعي في بغداد، وفي النهاية من يرعاه في طهران.

تعود المخاوف الخليجية في الوقع إلى سقوط نظام صدام الذي أدى إلى تحوّلٍ في ميزان القوة الإقليمي لمصلحة إيران وتفوقها الاستراتيجي. من وجهة نظر دول الخليج، يهيمن على غرب آسيا الآن إيران التي يمتد نفوذها إلى العراق وسوريا ولبنان (عبر حزب الله). في هذه الخلفية، تمثل التطورات الأخيرة في العراق مصدر قلق كبير لدول "مجلس التعاون لدول الخليج العربية" التي تواجه تهديداً مزدوجاً، حكومة معادية في بغداد وجهاديين شرسين. وبالتالي، فإن ما يهم دول "مجلس التعاون لدول الخليج العربية"، الآن، هو تشكيل حكومة وحدة وطنية في بغداد وهزيمة "داعش" عسكرياً. ومن وجهة نظرها، الموقف في الواقع، قد تدهور منذ ذلك الحين، وبعد النجاحات التي حققها تنظيم "داعش" لم يعد هناك حماس كبير لتغيير النظام في سوريا، فالكثير من المراقبين الغربيين يعتقدون أن نظام الأسد أفضل من "داعش".

وبشكل عام، يقدم غرب آسيا صورة لانعدام الأمن الشديد، في ظل التطورات الجديدة التي تهدد التوازن الجيوسياسي الإقليمي والنظام السياسي. يتجه الوضع في سوريا والعراق نحو حالة "الدولة الفاشلة"، بل إن الانقسام الطائفي يهدد سلامة أراضي معظم البلدان في المنطقة. وهكذا، يتطلب هذا السيناريو القاتم مبادرات غير تقليدية، وفي قلب هذه المبادرات عقد حوار سعودي-إيراني، وفي الوقت المناسب، حدوث تقارب. لا يمكن معالجة المسائل المتعلقة بالأمن الإقليمي إلا على أساس هذه المشاركة، التي من شأنها أن تسهم في تعزيز الاستقرار في العراق وسوريا، ومكافحة الجهاد، وتشجيع التعايش المشترك والاحترام المتبادل بين الطوائف الإسلامية المختلفة. وهذا يدعو إلى التحلي بالحكمة والحنكة السياسية التي تتوافر بقدر وفير في قادة هاتين الحضارتين الإسلاميتين العظيمتين.

جميع الآراء الواردة في "المقالات" تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المركز