تحوّلات المواقف الدولية بعد التدخل الروسي في سوريا

تحوّلات المواقف الدولية بعد التدخل الروسي في سوريا     
 
اتفقت التحليلات السياسية على جملة من التوصيفات للتدخل الروسي في سوريا؛ فهو "قلب المعادلات" بالنسبة إلى مَن يضعه في حيّز الأزمة السورية فحسب، لكنه "غيّر قواعد اللعبة" لمَن يراه بمنظار استراتيجي. وهو يرمي، في رأي مراقبين، إلى "ضمان مصالح روسيا" مع بلوغ الصراع السوري احتمالات انهيار النظام، كما أنه يعكس في نظر آخرين تحسّب موسكو لخطر الإرهاب المتمثّل في تنظيم "داعش" بسبب انضواء مئات من الشيشان والقوقازيين في صفوفه ومشاركتهم في القتال. وبطبيعة الحال، هناك غضب شديد لدى روسيا من التحدّي الأمريكي-الأوروبي لها في أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية التي فُرضت عليها، فضلاً عن استياء كبير من استبعادها من "التحالف الدولي ضد الإرهاب" ومحاولة تهميش دورها في سوريا، ولذلك وجدت أنه قد حان الوقت لاستخدام الورقة السورية، ليس لتأكيد نفوذها فقط، بل للتصعيد ودمج كل الملفات الخلافية مع الدول الغربية واستدراجها إلى التفاوض على تسوية أيضاً.

في ما يتعلّق بالأزمة السورية، لا شـك في أن روسيا قلبت المعــادلة، إذ إن تدخـلها العسـكري، ولا سيما بالسلاح الجوي، عزّز الموقف الدفاعي للنظام ووفّر له إمكان تحصين مناطق سيطرته الحالية واستعادة مناطق خسرها تباعاً خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، كما أنه رسم دوراً للنظام في محاربة "داعش" وإخراجه من محافظتَي الرقّة ودير الزور. وفي حال تمكّن النظام من ذلك كلياً أو جزئياً، فسيعتبر أنه حسم الصراع عسكرياً لمصلحته، وبالتالي يستطيع فرض تسوية سياسية مع المعارضة الداخلية المدجّنة و"مَن يرغب" من المعارضة التي لم تشارك في القتال ضدّه. وكانت موسكو قد مهّدت لحلٍّ كهذا باستضافتها جولتين من الحوار بين ممثلين عن النظام ومجموعة مختارة ممن وُصفوا بـ "المعارضين".

استبقت روسيا تدخّلها بمشاورات واسعة اقترحت خلالها من جهة تعاوناً وتنسيقاً عسكريَّيْن بين دول إقليمية كالسعودية والعراق وتركيا، بالإضافة إلى النظام السوري، بغية تفعيل الحرب على "داعش"، كما طرحت من جهة أخرى سيناريوهات لـ "حل سياسي" في سوريا يستند، في جانب منه، إلى مفاوضات بين الأطراف بإشراف الأمم المتحدة، وفي جانب آخر، إلى تفاهم دولي-إقليمي على قبول استمرار رأس النظام بشار الأسد لفترة محدودة في الفترة الانتقالية.

لم يكن واضحاً خلال تلك المشاورات أن الرئيس فلاديمير بوتين يمهّد لتدخل روسي مباشر، أو ليس بهذا الحجم، ولا بالأجندة التي ظهرت معالمها سريعاً. لكن ما كان واضحاً أنه سعى إلى تشكيل "تحالف" آخر ضد الإرهاب، إذ إن الدول التي دعاها إلى التعاون مع النظام السوري، هي مشاركة في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، وكانت اشترطت استبعاد أي تعاون مع هذا النظام لأنها تتهمه باجتذاب "داعش" ومساعدته، في بداياته، على اختراق مناطق المعارضة في الشمال السوري. غير أن العواصم المعنية كافةً، بما فيها واشنطن، رأت أن ثمة فرصة تلوح لانخراط روسيا في الحل السياسي، فأبدت استعداداً لتسهيل مهمتها بقبول مبدئي لبقاء الأسد. وطولبت موسكو بتقديم ضمانات موثّقة لرحيل مؤجل لرأس النظام، لكنها رفضت واكتفت بتعهّدات شفوية، لكن مشاورات جون كيري - سيرجي لافروف، توصّلت إلى صيغة أوليّة تتيح التنسيق مع النظام في الحرب على "داعش"، لكن شرط أن يتمَّ ذلك بالتزامن مع بدء العملية الانتقالية.

كانت الصورة على هذا النحو حتى منتصف سبتمبر، عندما بدأت تتوارد الأنباء عن تكثيف متسارع للوجود الروسي على الساحل الغربي السوري. كما بدأ مسؤولون في موسكو وطهران ودمشق يتحدثون عن "تحالف رباعي" بالإضافة إلى بغداد لـ "محاربة داعش"، وهو الشعار الذي اعتمده التدخل، وحُجّته أن التحالف الآخر لم يستطع أن يحقق أهدافه، بل أسهم، على العكس، في تقوية التنظيم الإرهابي. اتضح سريعاً أن روسيا وإيران كانتا تدرسان هذا المخطط منذ الأشهر الأولى للسنة، لكنهما تريّثتا في كشفه لئلا ينعكس سلبياً على المفاوضات النووية، وبعد التوصل إلى الاتفاق النووي في منتصف يوليو وجدتا أن الظرف بات مواتياً للانتقال إلى التنفيذ. فـ "ما بعد الاتفاق" طرح إمكان انفتاح إيران على الولايات المتحدة، لذلك اعتبرت موسكو أن مصالحها تقتضي تطوير التعاون الاستراتيجي، وأن "خطة سوريا" تمكّنها من فرملة أي اندفاع إيراني نحو الغرب، وتساعدها على فرض مساومة مع أمريكا على أوكرانيا والأمن الأوروبي. وإذا كانت الرؤية من الجانب الإيراني لـ "الخطة" تختلف قليلاً إلا أنها تتكامل مع الرؤية الروسية بالنسبة إلى الأهداف، إذ كانت إيران بالغة الاستياء من الحواجز التي وضعها الأمريكيون أمام مشاركتها (عبر ميليشيات "الحشد الشعبي") في محاربة "داعش" في العراق، كما أصبحت مدركة أخيراً أنها لن تستطيع وحدها حسم الصراع السوري عسكرياً، لذا كان عليها أن تستعين بـ "الصديق" الروسي.

كان الوضع السوري وحلوله المحتملة قد ارتبطت نهائياً بالخارج منذ عام 2012، وحافظت الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا على "تفاهمات" التزمت الأولى بموجبها وألزمت حلفاءها (تركيا، خصوصاً) عدم التدخل العسكري في سوريا، أما الثانية فنالت اعترافاً أمريكياً وأوروبياً بـ "مصالحها" وبدور رئيسي في أي تسوية للصراع السوري. وكان سائداً أن الدولتين الكُبريين ملتزمتان عدم التدخل العسكري المباشر، إلا أن واشنطن وحلفاءها انتقدوا على الدوام التسليح الروسي للنظام، وردّت موسكو بأنها تتعامل مع حكومة "شرعية"، وبدورها انتقدت موسكو إقدام دول أخرى على تسليح الفصائل المعارضة. وتبادل الطرفان أيضاً انتقادات لتدخل أطراف خارجية في النزاع، إلا أن أي دعم تركي أو سعودي أو قطري للمعارضة لم يبلغ يوماً حجم التدخل الإيراني، المباشر واللامحدود، لمصلحة النظام.

ما الذي أدّى إلى التحوّلات الأخيرة؟ لا شك في أن مردّها الرئيسي إلى اجتياح "داعش" المحافظات السنية في العراق ثم تمدّده إلى سوريا، وبالتالي بروز الإرهاب كأولوية ونشوء تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة لمحاربته وفقاً لاستراتيجية طويلة المدى. وبرغم أن واشنطن فصلت الحرب على "داعش" عن مسارات النزاع السوري الداخلي، وأبقت على تفاهماتها السورية مع موسكو، برغم القطيعة التي فرضتها الأزمة الأوكرانية بينهما، فإن روسيا لم تقبل بتهميشها ووجدت أن الحرب على "داعش" مكّنت أمريكا من العودة إلى المنطقة من الباب العراقي، ووفرت لها ميزة التحكّم في الصراع السوري بشكل غير مباشر. هذه المعطيات، معطوفة أولاً على متغيّرات ما بعد الاتفاق النووي، وثانياً على استمرار العقوبات الأمريكية-الأوروبية، وثالثاً على اتفاق أمريكي - تركي للشروع في "حرب شاملة ضد "داعش"، جعلت روسيا تراجع حساباتها وتتبنّى استراتيجية مختلفة تتخلّى فيها عن "التفاهمات" مع أمريكا وتقلب الأولويات لتصبح إعادة تعويم نظام الأسد مقدمة لضرب "داعش"، مع تأجيل الحل السياسي لينبثق من المعادلة الميدانية التي ستستجدّ.

كان اللقاء بين الرئيسين الأمريكي والروسي، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، فرصة حاسمة لكل منهما كي يجتذب الآخر إلى رؤيته. لكن موسكو استبقت هذا اللقاء بإعلان إنشاء غرفة تنسيق استخباراتي في بغداد لمصلحة "التحالف الرباعي" ضد "داعش"، كما أن بوتين  استبقه بمقابلة تلفزيونية مع قناة أمريكية كرّر فيها إصراره على التعاون مع النظام السوري لمحاربة الإرهاب. لذلك لم يكن مستعدّاً للاستجابة لأطروحات باراك أوباما، سواء بدعوة روسيا إلى العمل من خلال "التحالف الدولي" الموجود، أو لإقناعه بأن يكون هناك تزامن بين ضرب "داعش" والبدء بمرحلة انتقالية في سوريا. لكن الأهم أن محادثات الرئيسين تمحورت، في جانب كبير منها، حول أوكرانيا، ولم يلمس بوتين تغييراً في الموقف الأمريكي أو استعداداً للتفاوض حول الملفات الخلافية؛ أي إنه لم يسمع ما يجعله يفكّر في تعديل خططه الخاصة بالتدخل في سوريا.

فور بدء العمليات الجوية الروسية في سوريا ومواكبتها بتحشيد لقوات تابعة للنظام، وأخرى جمعتها إيران من ميليشيات تابعة لها من جنسيات مختلفة، تأكد أن الأولوية الروسية لضرب المعارضة المناوئة للنظام، لا لضرب "داعش". لكن المواقف الأمريكية الأولى، خصوصاً من أوباما، لم توحِ بتغيير ملموس، ثم كثر الكلام عن تنسيق عسكري لتجنب صدامات في الأجواء. وعندما عقدت في باريس قمة رباعية مخصصة للوضع الأوكراني، حرص بوتين على الحضور، وبرغم أن الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية فاتحاه في الشأن السوري، فإنهما لمسا تمسّكه بآرائه مُصرّاً على أن قواته لا تتعرّض للمعارضة، بل تركّز على مواقع الإرهابيين، في حين أن التقارير الاستخباراتية قدّرت، وفقاً لوزير الخارجية البريطاني، أن 5% فقط من الأهداف كانت لـ "داعش". وبدا واضحاً أن الجانب الأمريكي - الغربي وجد نفسه فجأة بلا خيارات عملية، لذا راح يطالب روسيا بتوضيح وجهتها ويحذّرها تارة من التورّط في سوريا، وتارة أخرى من أن الأسلوب الذي اختارته من شأنه أن يدفع بالفصائل المعارضة إلى أحضان "داعش"، كما ألحّت على موسكو بوجوب الالتفات إلى "الحل السياسي" الذي تعهّدت بجلب الأسد إليه. لكن الجديد الذي لاح في الأفق كان إلقاء أسلحة أمريكية جوّاً إلى مجموعات في شمال سوريا توحّدت تحت اسم "قوى سوريا الديمقراطية"، وتضم "وحدات حماية الشعب" الكردية كفصيل رئيسي، وقد طُلب منها أن تستعد لاقتحام معقل "داعش" في الرقّة، استباقاً لوصول محتمل للقوات السورية والإيرانية إليها.

غير أن هذا التطوّر لا يعد ردّاً أمريكياً كافياً على التغيير الذي فرضته روسيا على مجمل استراتيجية محاربة الإرهاب. وفيما أُعلن خط مباشر بين القاعدة الروسية في مطار حميميم في اللاذقية وقيادة القوات الجوية الإسرائيلية لتنسيق الضربات الجوية، بدا واضحاً أن إسرائيل تجاوزت حليفها الأمريكي واختارت التكيّف مع الدور الروسي المتحالف مع إيران، علماً بأن هجماتها في سوريا تستهدف خصوصاً حلفاء لإيران، ولا سيما "حزب الله" اللبناني. وبعدما تعمّد الروس التحرّش بطائرات تركية في ما يشبه الرسالة المباشرة إلى حلف "الناتو"، الذي ردّ مجدِّداً التزامه الدفاع عن تركيا، انتقلت موسكو إلى الخطوة التالية بمحاولة اجتذاب أنقرة، إذ عرضت عليها أيضاً المشاركة في محاربة الإرهاب بالتنسيق معها. كل ذلك يزيد الضغوط على أوباما كي يغيّر استراتيجيته، لكنه لا يزال مصرّاً على عدم الدخول في مواجهة مع روسيا، لذلك فإن أقصى ما يتوقّع منه، هو أن يوافق على مزيد من الإجراءات التكتيكية التي تجعل التورّط الروسي أكثر كلفة.;

جميع الآراء الواردة في "المقالات" تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المركز