الاستراتيجية الجديدة للجيش الإسرائيلي: قراءة تحليلية

الاستراتيجية الجديدة للجيش الإسرائيلي: قراءة تحليلية     
 
بخطوة غير مسبوقة في تاريخه، نشر الجيش الإسرائيلي على موقعه الإلكتروني، في الـ 13 من أغسطس الجاري، وثيقة استراتيجية باللغة العبرية، بعنوان "استراتيجية تْساهَل" (الوثيقة منشورة على الرابط الإلكتروني: http://www.idf.il/SIP_STORAGE/FILES/9/16919.pdf)، بتوقيع رئيس الأركان، غادي أيزنكوت، الذي عينته الحكومة بمنصبه في 14/12/2014.

على امتداد 30 صفحة، في 5 فصول، و40 عنواناً فرعياً، تضمنت الوثيقة الخطوط العريضة لوظيفة الجيش الإسرائيلي، وحددت مرجعيته الأمنية وأهدافه وطرق تحقيقها، فتحدثت عن: الإطار الاستراتيجي للجيش، والبيئة التشغيلية والاستراتيجية، واستخدام القوة، ومبادئ القيادة والسيطرة، وتراكم القدرة. وحسب تقارير إسرائيلية عدة، هناك قسم سري للوثيقة ظل طيّ الكتمان لكونه يتعلق بمعلومات عسكرية حساسة.

إن أي قراءة متخصصة لوثيقة "استراتيجية تساهل" ستلاحظ انتظامها في سياقين رئيسين، هما:

أولاً، السياق الداخلي، وهو ينطوي على مؤشرات مهمة أبرزها:

1 ـ تعتبر الوثيقة بصيغتها الأولى من "إنتاج أيزنكوت"، طبقاً لتأكيدات متناثرة في المصادر الإسرائيلية. ويبدو أن أيزنكوت، الذي تخرج من الكلية العسكرية للأمن التابعة للقوات البرية الأمريكية، اقتدى في وضعها بلجوء الجيش الأمريكي لنشر وثيقة "الاستراتيجية العسكرية القومية" بشكل دوري. ومن المفترض، والحالة هذه، أن تكون سيرة حياة أيزنكوت، وسلسلة المهام الميدانية والقيادية النوعية التي تولاها، قد تركت بصماتها على صياغة الوثيقة، وخاصة خدمته في مراكز اتخاذ القرارات، حيث صار سكرتيراً عسكرياً لرئيسَيْ الحكومة: باراك (1999)، وشارون (2001)، وقاد لواء الضفة الغربية (2003 أثناء الانتفاضة الثانية)، وعيّن رئيساً لعمليات المنطقة الشمالية (2005)، ثم ترقيته إلى رتبة لواء وتسلمه قيادة المنطقة الشمالية (2006)، وتعيينه نائباً لرئيس الأركان (2012).

2 ـ حسب الصحافة الإسرائيلية، عمّم أيزنكوت الوثيقة بصيغتها السرية على كبار ضباط الجيش؛ لإغنائها قبل نشر نصها المعلن كحقيقة منتهية. وأكد فيها أن استراتيجية الجيش الجديدة مرتبطة بتطبيق الخطة متعددة السنوات "جدعون" التي أقرتها هيئة الأركان برئاسته، وتعدّ بمنزلة بديل لتقرير اللجنة الحكومية التي ترأسها اللواء الاحتياط يوحنان لوكر، بشأن رفع نجاعة الجيش، وخاصة أن هذا التقرير قوبل بموقف سلبي من وزير الدفاع ورئاسة الأركان.

3 ـ اختير عنوان الوثيقة بعناية، فهو لم يكن "الاستراتيجية الأمنية لإسرائيل"؛ لأن هذا الأمر من اختصاص القيادة السياسية، لكن مع ذلك، نجح أيزنكوت بوضع النواة الرئيسة لهذه الاستراتيجية، ووظف تجربته الغنية ومكانته في شبكة العلاقات بين القيادتين العسكرية والسياسية، بالحصول على إقرارها من قبل رئيس الحكومة ووزير الدفاع، وبذلك أصبحت الوثيقة عملياً خطة للدولة، لكون الجيش هو العمود الفقري للكيان الإسرائيلي.

4 ـ تتحدث الوثيقة عن الأهداف القومية، في الفصل الأول، وتوضح أنه، بالإضافة إلى ضمان وجود دولة إسرائيل وسلامتها الإقليمية، يجب على الجيش الإسرائيلي الحفاظ على قيم إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، وضمان مناعتها الاجتماعية والاقتصادية، وتوطيد مكانتها الدولية والإقليمية، وتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة، وتطوير علاقات استراتيجية مع دول أخرى.

5 ـ تنظم الوثيقة العلاقات بين المستويين الأمني والسياسي، ومع نشرها علناً تكون قد استدعت إدخال أطراف أخرى في المعادلة، هي: الرأي العام الإسرائيلي، والجهات المعنية بمتابعة أداء الجيش الإسرائيلي.

6 ـ في فصل مفهوم القيادة والسيطرة وتنظيم الجيش الإسرائيلي للقتال، تصف الوثيقة كلاً من: هيئة الأركان، والقيادات الرئيسية الأخرى. وتحدد بشكل واضح أن مهمة رئيس الأركان الأساسية هي إعداد الجيش للمعارك المستقبلية، وأن رئيس الأركان هو قائد المعركة الوحيد في الجيش، وبواسطة القيادة العامة يقود كل العمليات، وهو الوحيد الذي يكون على اتصال مع الحكومة، وهو الذي يقرر عدد الهجمات العسكرية المطلوبة في بداية الحرب ويحدد التهديدات والمخاطر، بعد مشاورات مع قيادة الجيش.

7 ـ تذكر الوثيقة أن توجيهات السلطة السياسية تستلزم قيام حوار بين القيادة العسكرية العليا والسلطة السياسية للوصول إلى تأثير متبادل. وتطلب الوثيقة من السلطة السياسية أن تقول للجيش: ما الأهداف؟، وما حالات النهاية الاستراتيجية المطلوبة؟، وما مهمة الجيش؟، وكيف يحققها؟، وما ضرورات استخدام القوة العسكرية؟، وما المساعي الأخرى؟

8 ـ تحدد الوثيقة في فصل بناء القوة؛ المبادئ الموجهة لبناء القوة - حماية الحدود في الأوقات العادية - والحماية من التهديد- والمناورة البرية- وإنزال قوات من سلاح المشاة من الجو - واستخدام قوات خاصة في العمق - وبناء القدرات في مجال السايبر - وتطوير القدرات مقابل دول لا توجد معها حدود مشتركة.

ثانياً، السياق الآخر لوثيقة "تساهل" يتعلق بالمحيط الجغرافي، وهو بدوره ينطوي على مؤشرات مهمة أبرزها:

1 ـ ترسم الوثيقة خريطة التهديدات لدولة إسرائيل في بيئتها الجيوسياسية. وحسبما كتب أيزنكوت في مقدمتها: "ترتكز النظرية التي تم تبنّيها على إدراك تراجع التهديدات التقليدية وغير التقليدية القادمة من الدائرة الأولى (دول الطوق)، مقابل ارتفاع التهديد شبه التقليدي الذي تمثله المنظمات الإرهابية وتهديدات السايبر وغير ذلك".

2 ـ اعتبرت الوثيقة أن الأطراف الأساسية المعادية لإسرائيل حالياً هي منظمات إسلامية دون الدولة، على غرار حركة "حماس" و"حزب الله" وتنظيم "داعش"، وبالتالي فإن السيناريو الرئيسي الذي يستعد له الجيش الإسرائيلي، هو اندلاع مواجهات معها، برغم أن القدرات التي يطورها تلائم حرباً ضد جيوش نظامية لدول.

3 ـ تؤكد الوثيقة أنه في المعارك مقابل "حزب الله" و"حماس" مطلوب من الجيش الإسرائيلي إنهاء المعارك بالانتصار وبإملاء شروط إنهاء القتال. لكن الوثيقة لا تتحدث عن القضاء عليهما. وتصف انتصار إسرائيل في أي حرب تخوضها بأنه تحقيق الغايات السياسية لها. ولا يشمل هذا الانتصار احتلال منطقة لفترة طويلة، ولا إسقاط أنظمة، وإنما تحسين الوضع الأمني لإسرائيل.

4 ـ تتحدث الوثيقة عن وجود تعاون استراتيجي لإسرائيل مع الأردن ومصر، ولاتشير إلى أي دولة تهدّد إسرائيل. ولدى تطرقها إلى سوريا تراها دولة فاشلة قيد التفكك. وبشأن إيران، تشير الوثيقة إلى دعم إيران للمنظمات "الإرهابية" وعلى رأسها؛ "حزب الله" و"حماس"، ولكنها لا تتحدث عن وجود تهديد نووي إيراني.

يتقاطع السياقان الداخلي والمحيطي لوثيقة "تساهل" في مساحة واسعة من البنى والتفاعلات، ويمكن الوقوف هنا عند المعالم التالية:

1 ـ توضح الوثيقة تحت عنوان "مبادئ عقيدة الأمن القومي" أن من غير الممكن إخضاع العدو بحالة الدفاع عن النفس؛ لهذا يجب استخدام قوة هجومية لتحقيق نتائج عسكرية واضحة. وبإيحاء  -على ما يبدو- من التجربة مع قطاع غزة، وتهديدات "حزب الله" باحتلال مناطق في الجليل، تنص الوثيقة على أنه في حال تعرُّض سكان إسرائيليين لـ "تهديد من باطن الأرض" سيتم إخلاؤهم من بيوتهم، حتى لو سمح هذا الأمر باحتلال أراض إسرائيلية. وتشدّد على ضرورة منع العدو من تكريس أي إنجاز جغرافي، وأنه لن يكون وقف إطلاق النار قبل طرد الغزاة.

2 ـ برغم تحديد الوثيقة بأن "إسرائيل هي دولة تنشد السلام وتسعى للامتناع عن المواجهة"، فإنها سرعان ما تُسقط هذه المقولة، حيث تتضمن فكرة "العقيدة الأمنية" ضرورة وجود فترات تهدئة أمنية طويلة من أجل إفساح المجال لتطوير المجتمع والاقتصاد وتحسين الجاهزية لحالات الطوارئ والحرب.

2 ـ بلورت الوثيقة التغييرات المطلوبة في الجيش على ضوء تحديات المستقبل والتغيرات في خصائص العدو، ومنها: تعزيز الفعالية والمناورة البرية وتحسينها - وتنوع القدرات التنفيذية في المعارك بين الحروب- والحفاظ الواضح على التفوق الجوي والاستخباراتي والبحري – والاهتمام بالوسائل "الروبوتية"؛ كالطائرات من دون طيار، والآليات غير المأهولة التي تتحرك على طول الحدود، والسفن الموجهة من بعيد.

3 ـ تعترف الوثيقة بأن خطة تغيير بنية الجيش تتكيف مع بعدين مهمين هما: ضغوط الموازنة المالية، وتغيّر خريطة المخاطر المحدقة بإسرائيل. وفي جوانب استخدام القوة تحتوي استراتيجية "تساهل"، ولأول مرة، على مبدأ الدفاع، إلى جانب المبادئ التقليدية؛ الردع، والإنذار، والحماية، والهجوم، والحرب الوقائية، والانتصار والحسم.

4 ـ تتطرق الوثيقة إلى المعركة بين الحروب، بأن هدفها الحفاظ على الإنجازات الإسرائيلية، وتقليص تعاظم الأعداء، وخلق ظروف أفضل للانتصار في حرب مستقبلية. كما تذكر أن قسماً من المعارك بين الحروب سيشمل عمليات سرية وعلنية لخلق حالة ردع، وتنفيذ عمليات ضد دول لا توجد لإسرائيل معها حدود مشتركة.

5 ـ تتأثر صيغة الوثيقة بوضوح بمعرفة أيزنكوت الواسعة والدقيقة بالجبهة الشمالية، عندما تولى رئاسة قسم العمليات في رئاسة الأركان خلال حرب لبنان الثانية (2006)، وشغل بعدها منصب قائد المنطقة الشمالية لمدة ست سنوات. حيث صاغ أيزنكوت "عقيدة الضاحية الجنوبية"، معقل "حزب الله" في بيروت. وتشمل هذه العقيدة "تسوية المنطقة بالأرض"، عبر تفعيل الضغوط الهائلة على مراكز السلطة والسيطرة والمراكز المدنية، والتشديد على عقيدة "الصدمة والرعب"، ليس فقط في الجبهة الشمالية، وإنما أيضاً في باقي الجبهات التي يخوض فيها الجيش الحرب، بما يؤدي إلى تدمير كل المواقع أو التجمعات السكانية التي تطلق منها الصواريخ على إسرائيل.

ارتباطاً بالبعد الصراعي التنفيذي، من المؤكد أن قيادة الجيش الإسرائيلي ستُعنى باعتماد الاستراتيجية الجديدة، آخذة بعين الاعتبار إمكانية حدوث "دينامية تصعيد" تقود إلى اندلاع حرب أو مواجهة عسكرية كبيرة، حتى لو كانت المعطيات الراهنة لا تقدم أدلة على ذلك.

جميع الآراء الواردة في "المقالات" تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المركز