هل تشهد العلاقات بين واشنطن وموسكو تنافساً استراتيجياً؟

تمر العلاقات الأمريكية-الروسية بفترة حرجة، وبرغم مرور نحو خمسة أشهر على ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب -الذي كانت التوقعات قبل توليه المنصب تشير إلى إمكانية حدوث تحسن، بل ونقلة نوعية في علاقات واشنطن وموسكو- فلا تزال احتمالات تطبيع العلاقات بينهما على النحو الذي كان متوقعاً غير واقعية، ليس فقط بسبب الخلافات حول ملفات دولية مهمة، ولكن أيضاً بسبب التحدي الذي تثيره روسيا من خلال سعيها لتحقيق توازن أكبر مع واشنطن في النظام الدولي. كيف؟

تحسنت العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة بشكل كبير وتحولت واقعياً من علاقات صراع وتنافس إلى علاقات تعاون؛ ولكن تميزت هذه الفترة وحتى بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بتراجع غير مسبوق في قوة ومكانة روسيا في الساحة الدولية، مقابل تحسن في وضعها الاقتصادي، خاصة بعد الانفتاح على الغرب وتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري مع الدول الأوروبية، وكذلك دول وسط وشرق آسيا، وخاصة الصين والهند. وبعد التحسن الاقتصادي بدأت روسيا تفكر بشكل مختلف ووجدت أنها قادرة على إعادة الاعتبار لمكانتها الدولية ولأن تكون ليس فقط مجرد قوة كبرى، ولكن أن تصبح القوى الثانية المنافسة بقوة في النظام الدولي. وقد عززت أحداث «الربيع العربي» هذا الشعور بشكل كبير لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الطامح بقوة لإعادة أمجاد بلاده، خاصة بعد أن خسرت العديد من حلفائها ومناطق نفوذها في الشرق الأوسط، وبعد خسارة معظم إن لم يكن كل من كان يدور في فلكها من دول الاتحاد السوفيتي السابق، وهي تراها تنجذب الواحدة تلو الأخرى نحو الغرب بما في ذلك أوكرانيا، التي كانت آخر وأهم المعاقل المؤيدة، بل والتابعة لموسكو؛ وقد كانت الأزمة الأوكرانية أول اختبار حقيقي لرغبة موسكو في العودة بقوة إلى الساحة الدولية. ثم جاءت الفرصة السانحة للعودة بقوة إلى الشرق الأوسط عبر تدخلها في سوريا، مستغلة تراجع الولايات المتحدة في عهد باراك أوباما. وقد مثل الانخراط الروسي في سوريا والمتزامن مع تقوية علاقاتها مع حلفاء واشنطن التقليديين في المنطقة بما فيها «إسرائيل» تحدياً حقيقياً للزعامة الأمريكية للنظام الدولي؛ بل وظهرت روسيا وكأنها الدولة الأكثر تأثيراً في ما يجري من أحداث في منطقة تعتبر محور التوازن في النظام الدولي.

ومع قدوم الإدارة الأمريكية الجديدة التي كان يتوقع أن تتحسن في عهدها ومنذ البداية العلاقات مع روسيا، فقد حدث العكس حيث توترت العلاقات ليس وقع الخلاف مع روسيا في بعض الملفات فقط، وإنما أيضاً بسبب تفاقم حدة الاتهامات لها بالتدخل في الانتخابات الأمريكية لترجيح كفة ترامب في الانتخابات الرئاسية، ما يشكل تحدياً حقيقياً لزعامة أمريكا الخارجية ولهيبتها كزعيمة للعالم الديمقراطي الحر في العالم.

وهذه التفاعلات كلها تدفع باتجاه عودة التنافس والصراع على النفوذ مجدداً بين البلدين. وقد عبر وزير الدفاع الأمريكي جيم ماتيس عن هذا الأمر بوضوح عندما أبلغ لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب الأمريكي «أنه لا توجد دلائل على أن روسيا ترغب في إقامة علاقات إيجابية مع الولايات المتحدة، مضيفاً أنها اختارت أن تكون منافساً استراتيجياً». وذهب جوزيف دانفورد رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة إلى أبعد من هذا عندما قال إن الولايات المتحدة تربطها علاقة خصومة مع روسيا.

من الواضح إذاً أن هناك إدراكاً متزايداً داخل الإدارة الأمريكية الجديدة بمدى التحدي الذي تثيره روسيا للنفوذ الأمريكي ليس فقط في مناطق حيوية لمصالحها كالشرق الأوسط، وإنما أيضاً لزعامتها على مستوى النظام الدولي. وهناك حديث متزايد في الأوساط العسكرية الأمريكية عن القدرات العسكرية الروسية التقليدية، حيث تشهد تقدماً تكنولوجياً كبيراً؛ وهو ما يعتبر تحدياً، بل وربما تهديداً للهيمنة الأمريكية فيما يخص الأسلحة البرية التقليدية؛ ومن هنا فإن احتمالات زيادة حدة التنافس الاستراتيجي بين موسكو وواشنطن قائمة؛ ومن الواضح أن الولايات المتحدة لن تسمح بسهولة لروسيا ولا لغيرها من القوى الصاعدة بقوة كالصين بتحدي زعامتها للنظام الدولي.

جميع الآراء الواردة في "المقالات" تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المركز